الجدية والتدقيق
إن الفارق الجوهري بين اكثر الناجحين في حياتهم وغيرهم من الفاشلين, هو عنصر الجدية في حياة اولئك الناجحين, بحيث شملت الجدية كل مناحي الحياة عندهم. نري ذلك في حياة اصحاب المشروعات, أو كبار رجال الاعمال.
او حتي طلبة الجامعة والمدارس الثانوية, حيث ان الطالب الجاد الذي يهتم بالدراسة والمراجعة وتثبيت المعلومات اهتماماً جاداً, هو الذي يتفوق في حياته ويصير ممتازاً.
ان الجدية في الحياة دليل علي الرجولة وقوة الشخصية. فالإنسان الجاد في روحياته, هو إنسان يحترم نفسه, ويحترم مبادئه, ويحترم الكلمة التي تخرج من فمه, ويحترم الطريق الروحي الذي يسلكه فلذلك هو يتميز بالثبات وعدم الزعزعة, إنه كسفينة ضخمة تشق طريقها في بحر الحياة بقوة متجهة نحو هدفها, وليس كقارب تعصف به الأمواج في اي اتجاه.
الجدية في الحياة الروحية لا تقبل الإهمال والتراخي والتردد, والرجوع أحياناً إلى الوراء, ولا تقبل التأرجح بين الفرقتين محبة العالم, و محبة الله, والإنسان الروحي الجاد لا يتساهل في حقوق الله مطلقا, انه يأخذ حق الله من نفسه أولاً قبل ان يأخذه من غيره. وهو يسلك في وصية الله بكل حزم وبكل دقة وبكل عمق، واذا نذر نذراً, لا يعاوِد التفكير فيه أو المساومة. ولا يؤجل الوفاء بنذره, ولا يحاول استبداله بغيره ولا يماطل ولا يرجع في كلمته انه بكل جدية وبكل سرعة ودقة ينفذ النذر واضعا أمامه تلك العبارة: خير لك ألا تنذر من ان تنذر ولا تفي، ونص الآية هو: "أَنْ لاَ تَنْذُرُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَنْذُرَ وَلاَ تَفِيَ." (سفر الجامعة 5: 5).
والإنسان الروحي يكون أيضاً جادا في توبته, ولا يؤجل التوبة, وان ترك خطيئة, يتركها بجدية, فلا يعود إليها مرة أخرى, ويكون جاداً في مقاومة الخطايا بكل ضبط للنفس, وما أجمل قول احد القديسين: لا أتذكر ان الشياطين قد أطغوني في خطية واحدة مرتين.
والإنسان الجاد في توبته, لا يعذر نفسه في سقطاته, ولا يقدم تبريرات لخطاياه, ولا يضعف أمام الظروف الخارجية وضغطاتها, شأنه في ذلك شأن يوسف الصديق العفيف الذي كانت تضغط عليه الظروف الخارجية, وتحاول إخضاعه للخطية, ولكنه لم يتساهل مطلقا مع إغراء السقوط, ولا بحجة انه كان عبدا وتحت سلطان غيره, وبإمكان سيدته ان تؤذيه.
والإنسان الجاد, بكل جدية وقوة يستخدم اية موهبة منحه الله اياها لتسير في طريق الخير ولعل في مقدمة هذه المواهب: الوقت. فالإنسان الجاد يعتبر ان الوقت هو جزء من حياته ان فقد شيئا منه, يكون قد فقد جزءا من حياته لذلك فهو يستخدم وقته كله من اجل خير المجتمع الذي يعيش فيه, ومن اجل خيره هو شخصيا, وهكذا لا يضيع اي جزء من وقته بغير فائدة.
ان الجدية ترتبط أيضاً بحياة التدقيق ولكي نفهم التدقيق في عمقه نفترض الآتي: لنفرض ان ملاكا اعلن الإنسان ان حياته علي الأرض ستنتهي بعد أسبوع فلا شك ان هذا الإنسان سيسلك في خلال ذلك الاسبوع بكل تدقيق, استعدادا لأبديته, وعلي هذا القياس نود ان نتحدث عن حياة التدقيق.
وهكذا فالإنسان الروحي الجاد يدقق في كل علاقاته مع الله, ومع الناس, ومع نفسه ويكون مدققا في كل تصرف, وفي كل كلمة يلفظها, وفي كل افكاره, ونياته. ويكون مدققا من جهة حواسه ومشاعره واتجاهاته, من جهة مواعيده ووقته والنظام الذي يسير عليه.
والإنسان المدقق, لا يكون مدققا فقط وهو مع الناس. وانما حتي حينما يكون في حجرته الخاصة يسلك بتدقيق ان التدقيق في التصرف قد يكون سهلاً نوعاً ما في حضرة الناس, لاننا بطبيعتنا لا نحب ان ينتقدنا الغير, ونخشي ان ننكشف امام الناس وتظهر أمامهم عيوبنا, ولذلك فالمقياس الحقيقي للتدقيق هو عندما نكون بمفردنا, وان يكون التدقيق بدافع داخلي تتمثل فيه مبادئنا وقيمنا.
الإنسان المدقق كما هو حريص علي وقته, هو أيضاً يكون مدققا من جهة وقت غيره, فلا يشغل وقت غيره بغير ضابط, وبخاصة لو كان هذا الغير يخجل من ان يصده لذلك فهو لا يضيع وقت الآخرين في التوافه, أو في أحاديث تأخذ وقتا لا تستحقه.
الإنسان الروحي ينبغي أيضاً ان يكون مدققا في كلامه: يزن كل كلمة قبل ان يقولها سواء من جهة معني الكلمة أو قصدها أو مناسبتها للمجال أو للسامعين، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى. ومعروف ان السرعة في الكلام أو إبداء الرأي أو السرعة في الحكم علي الآخرين, اوفي الاستسلام للغضب, كل ذلك يعرض الإنسان للخطأ فلا يكون مدققا أو موفقا في كلامه. وكما يدقق الإنسان في كلامه, ينبغي ان يدقق في مزاحه وضحكه فلا يتحول ذلك الي نوع من التهكم علي الغير أو الاستهزاء به, كما ينبغي أيضاً ان يكون مدققا في نقده وفي عتابه وفي توبيخه, فلا يجرح شعور غيره حينما ينصح, ولا يوبخ فيحطم.
والإنسان المدقق تظهر دقته في أداء اية مسئولية تعهد إليه و طبعا ستقوده هذه الدقة الي النجاح والي اتقان عمله, والي احترام الناس له وثقتهم به.
علي ان البعض قد يدقق فيما يسميه الخطايا الكبيرة اما ما يسميها بالخطايا الصغيرة, فهو يستهين بها ولا يوبخه ضميره عليها. كذلك علي الشخص الروحي ان يدقق في كل حركاته, في دخوله وفي خروجه, في صوته وفي مشيته, أن كل خطوة عنده له حسابها, فلا تجرفه التيارات السائدة, ولا يجاري الأخطاء الشائعة, كما ينبغي ان يكون حكيما في تدقيقه لا ينجرف بالتدقيق إلى الوسوسة حيث يكبر البعض قيمة الخطأ, أو يظن خطأ حيث لا يوجد خطأ.