رحلة "اليوم السابع" فى الاستفتاء داخل منشأة ناصر والدويقة.. السلفيون حشدوا البسطاء ليصوتوا بـ"نعم" من أجل الجنة.. وآلاف الأقباط قالوا "لا" من أجل إلغاء "المادة الثانية".. والقبلية أقوى من الدين
اختلاف الأصوات بين "نعم" و"لا" فى منشأة ناصر والدويقة
كتبت سارة علام
فى منشأة ناصر والدويقة والزرائب فقراء وبسطاء لا يملكون من حياتهم شيئاً، فلا الاستفتاء يعنيهم ولا هم يعرفون لماذا يصوتون بـ"نعم" أو "لا"، وشبابهم المتعلم حائر أيضاً ما بين مد إسلامى يغزو القلوب وما بين علم ينير العقول، فيبين لهم الخيط الأبيض من الأسود أو العلامة الخضراء (نعم)، من السوداء (لا).
فى الثامنة صباحاً، بدأت الرحلة من مدرسة جمال عبد الناصر الإعدادية بنات بالمنشأة، وأمام المدرسة كان التصويت فى الساعات الأولى مبشراً وكان "شباب ثورة 25 يناير بمنشأة ناصر"، كما أطلقوا على أنفسهم، يصطفون أمام اللجنة يمنعون التأثير على المشاركين بالاستفتاء، ويحمون المنطقة كما قالوا، مع وجود مندوبى الإخوان المسلمين جوارهم، وبمجرد أن تقترب من اللجنة يسألونك "أنتا عاوز نعم أم لا؟"، تقول أنك صحفى، وأنك على الحياد وأن رأيك ستحتفظ به لنفسك وسترميه فى الصندوق، يستوقفونك ويستحلفونك أن تقول رأيك فتقول "لا"، يستمع لك البعض ويتفق ويكرهك البعض الآخر ويطلب منك الصمت، لأن "محدش فاهم اللى انتى بتقوليه، الناس هنا غلابة وإحنا عاوزين استقرار" تصمت، ثم تعود للدردشة البعيدة عن السياسة فتعرف إنهم "صعايدة من بلدياتك"، وتبدأوا فى الحديث بنفس اللهجة، يرحبون بك ويجلبون "الشاى والقهوة والواجب"، ويتناقش الدكتور "محمد" معك، وتتفقا ويعود الجمع من جديد، يتشاجر شباب المنطقة ويصر أحدهم على طردك من هنا "لأنك عملت فتنة" ويطلبها منك البعض الآخر بأدب شديد، تغادر إلى أعلى الهضبة "مساكن سوزان مبارك" بالدويقة، وفى طريقك إلى هناك تركب سيارة "لاند كروزر" قديمة ومتهالكة كتلك التى كان يستخدمها روميل وجنوده فى الحرب العالمية الثانية، وقبل أن "يُحمل" السائق سيارته يسألك بعض الشباب "ممكن تفهمينا الدستور ده إحنا مش فاهمين؟"، تبتسم وتصمت خشية أن تطرد مرة أخرى، فيقول لك أحدهم، "أنا عاوزهم يلغوا المراقبة بتاعت القسم أنا عليا حكم وزهقت من المراقبة، اللى هيلغى المراقبة هروح معاه سواء نعم أو لا"، تمتلئ السيارة بالركاب ويصعد بك السائق أعلى الهضبة وتكتشف أن مساكن "سوزان مبارك" التى أنشأتها لهم الدولة بعد انهيار الصخرة عليهم "بالإيجار"، ويؤكدون لك أنهم لن يدفعوا إيجار هذا الشهر، تصمت وأنت تعلم أنهم يخالفون القانون ولكن سحقاً للقانون الذى جاع وقتل فى حمايته هؤلاء، أمام اللجنة زحام شديد من السيدات يقولون جميعاً "هنعلم على العلامة الخضرا، هما قالولنا كده"ولا تعرف من المقصود بـ"هما"، يعاودوا السؤال عن رأيك، وتقوله لهم، فترد أحد السيدات "انتى عاوزانى أقول لأ عشان ابقى مسيحية؟".
يلتفون حولك مرة أخرى، وكل له مطلبه، سيدة فى يدها طفل معاق غير قادر على الحركة نهائياً و"عاوزة علاج"، وطفل آخر على صدره بطاقة هوية يقول لك "أنا معاق وعاوز معاش"، وسيدة ثالثة ترفع صوتها "إحنا مستلمناش لحد دلوقت مساكن المرحلة الثالثة من مشروع المساكن نايمين فى عشش وابنى مات من البرد من شهر، ورابعة متعلمة ترفع صوتها "قولوا لا عشان حقوقكم متضيعيش".
تغادر، إلى لجنة أخرى وعلى الحوائط تلمح "نعم لمبارك الرجل الجدع" تتعجب أن يقول أهالى الدويقة نعم لمن قتلهم وشردهم وجوعهم سنوات، تصل إلى منطقة "قايتباى" وكما يطلقون عليها "قايد بيه".
أمام مدرسة السلطان برقوق الثانوية، سيارات ملاكى وميكروباص تحمل مشاركين بالاستفتاء والسائق يملى عليهم "نعم" يا جماعة، والسيارة الملاكى تحمل نساء منقبات وشباب ملتحون يرتدون جلاليب قصيرة أما واجهة المدرسة فقد تغلفت بالكامل بلافتات "نعم"، وداخل اللجنة مواطنون يحتشدون للإدلاء بصوتهم ورجل آخر من ذوى اللحى والجلاليب القصيرة يجلس جوار الطابور يقول للمشاركين "قولوا نعم، تفلحوا، نعم الله أكبر ولا اله إلا الله".
يدخل مراقبو حقوق الإنسان، ويسجلون ملاحظاتهم على ما وصفوه بالانتهاكات، ويطلبون من الشرطة التدخل لإخراج الرجل الملتحى من اللجنة، لأنه يحاول التأثير على الناخبين، يسألونك "نجول نعم ولا لأ؟، تبتسم وتقول لهم "براحتكم، أنا هقول رأيى خارج اللجنة"، يتركون الطابور ويتبعونك إلى أقرب زقاق ويستمعون إلى رأيك، ويجادل بعضهم، تسألهم عن "الزرايب" فيتطوع أحدهم لتوصيلك بسيارته، لأنه ذاهب إلى عمله القريب من هناك بعد أن يطمئن إليك وأنت تحدثه "الصعيدى"، ويدرك أنكم إما أولاد عم أو أولاد خال، أو الاثنين معاً، يصل بك إلى مناطق الأقباط والتى تشبه تماماً قرى الأقباط فى صعيد مصر، منازل يزين واجهاتها الصليب فى كل مكان، ورجال يرتدون جلاليب فخمة وعجائز يرتدين ايشاربات سوداء، تصل لجنة مدرسة الجبرتى فتجد آلاف وحشود، تسأل أحد الشباب عن مؤشرات التصويت الأولية، فيأتيك رجل يرفع صوته "انتى عايزة أيه من هنا؟ انتى بتسألى سؤال مش مظبوط؟"، ويلتف الناس حولك مرة أخرى، ويظهر المقدس "وجيه عزيز غالى" كبير المنطقة ويأخذك من بينهم وتجلس، تحدثه "اللهجة الصعيدية"، وتقول أنكم بلديات
يبتسم ويستدعى فجأة "أم جرجس" عشان الشاى، تتحدثا فتتعارفا، فهو يعرف أحد أقاربك ويناديك "يابت اخويا"، قبل أن تنتهى من الشاى الأول يأتى الرجل الذى اتهمك أن "السؤال مش مظبوط" بالعصير وكأنه يعتذر، تصعد إلى مقار لجان التصويت، فتشاهد ملحمة النظام والتعاون، الفتيات نذرت نفسها لتنظيم السلم، وكذلك الشباب فعلوا، والبعض الآخر يتطوع بحشد الناس من المنازل، الجميع على كلمة رجل واحد "لا للتعديلات الدستورية" وتتعدد الأسباب، يقولون من أجل إلغاء المادة الثانية تارة، ومن أجل الشهداء تارة أخرى، ونكاية فى عبود الزمر الذى يطالب بدفع الجزية مرة ثالثة، كل له أسبابه والتصويت مستمر.
يشكو بعض المشاركين تباطؤ اللجنة فيرد المستشار المشرف عليها، من فضلك تابعى سير العمل واحكمى بنفسك، نحن نعانى من تخوين أهل المنطقة، الناخب يرفض التصويت بالقلم الذى يمنحه له الموظف ويخرج ليحضر قلماً جديداً مما يعطلنا بعض الشىء.
عند السابعة ينادى المستشار مشرف لجنة الاستفتاء بمكبرات الصوت، "فى حد مصوتش هنقفل سبعة ونص؟"، يتصدى له الشباب والفتيات التصويت مستمر إلى التاسعة، يرد: إلى التاسعة فى الأقاليم وليس فى القاهرة الكبرى"، تحدث مشادات كلامية ويلوح الشباب بالاعتصام فى المدرسة لحين السماح لهم بالإدلاء بأصواتهم، يتناقش المستشار مع قيادات المنطقة، ويؤكد لهم أنه فتح محضر الفرز ومن المستحيل أن يدلى ناخب بصوته مرة أخرى، تخرج القيادات وتأمر الشباب بالعودة إلى منازلهم فيوافقون على مضض.
يبدأ الفرز، وتدخل اللجنة وتفرز بيديك مستقبل مصر، غالبية البطاقات صوتت للعلامة السوداء، ونادراً ما تجد العلامة الخضراء، آلاف الأوراق مكتظة فى الصناديق، يقفل المستشار المحضر والعدد يقترب من الـ37 ألف، تذهب لمدرسة السلطان برقوق مرة أخرى، الأعداد أقل، تقرر العودة إلى القاهرة التى تعرفها فى التاسعة مساء دون أن تنقطع صلتك بأقاربك فى الدويقة.